للكاتبة / غنية الشبيبي
من كتاب سماء خضراء
وضع إبهامه الضخم _الذي تتوسطه شعيرات متجعدة _على جبهتها ، ضغط بقوة ،تمتم بكلمات لم تفهمها ظل فترة وهو على هذه الحال.. يغمغم بأصوات متشابكة.. شعرت بالرهبة والألم يربضان بخبث على نفسها الموجوعة… يستلان خيوط الطمأنينة و يلملمان ما بقي فيها من أشلاء السكينة ، كان غليظ الملامح عيناه جاحظتان تشوبهما حمرة .. بدتا كجمرة تلتهب.. لحيته البيضاء الطويلة ذكرتها بمرهون ساحر الحارة المشهور الذي كانت حكايات اختفائه فجأة و في عز الظهيرة وهو يحمل كيسة سح ثم ظهوره بعدها بيومين مصدر خصب للتندر والخوف والتسلية المرعبة بينها وبين رفيقات طفولتها… هل يكون هو.. مرهون الساحر..؟!
_ فيها مس من جني بحري وهذا أصعب أنواع المس.. الجن البحري
قالها بثقة العارف ، و المتبحر في شؤون الجان والسحر.. وشتى أنواع الغيبيات
_ وهذا عشان يخرج منها إيش يريد؟
تمتم أبوها بصوت متهدج عرًاه القهر… صوت اختلط فيه دفء الأبوة و حنو رائحته و شعث حزنه، و انتفاضة فجيعته …
_ يحتاج تذبح تيس أحمر ما فيه قرون..
_ وهين أحصله هذا؟
_ إذا تبا العافية لبنتك بتحصله.
كانت كلمات الرجل أشبه بخنجر حاد غرس في صدره ، تركه إيلام ونزعه إيلام أشد.. من قال إنه لا يريدها أن تشفى..وهو الذي ابتلي بشقاء الأبوة و قسوة خيباتها.. فمنذ أن مرضت مريم وهو لا يهنأ بنوم ولا راحة.. لم يبق شيخ ولا راق إلا وولج دربه.. حتى وصف له هذا الباصر :
-علاجة ضربة بضربة.. ما بتندم إذا شليتها معه.. وبتخف وترجع مثل أول وأحسن بعد.
هل حقا ستعود مريم كما كانت؟؟ مريم الجميلة الهادئة المهتمة بدراستها.. مريم أخت القمر كما كان يستلذ بمناداتها، مريم التي غزل الأدب في قسماتها حلاوة الخلق والخلقة كذلك . هكذا كان يصفها دائما حين يجتمع مع رفاقه و يعقب متباهيا بتفوقها في المدرسة الثانوية :
_ كل سنة تطلع الأولى على ربيعاتها الحمدلله ..
استل تنهيدة عميقة وكأنه يحاول غسل رئتيه من وعثاء الخيبة :
_ حاضر .. كل إلي تأمر فيه بنسويه ..نبا العافية.
أدخل يدية المرتجفتين إلى جيب دشداشته البيضاء وأخرج مائة ريال … أعطاها الرجل الجالس أمامه :
_ خذ هالمبلغ ألحين والباقي بعدين إن شاء الله .
التفت إلى مريم …كانت متكومة على نفسها وقد دست رأسها بين رجليها وأحاطتهما بذراعيها النحيلتين، بدت كظل هزيل طوقته زوبعة البؤس ..
احتضن كفها الصغيرة وانطلقا إلى الخارج ..كانت سيارة قديمة في انتظارهما ، يظهر أمام المقود شاب في مقتبل العمر ..
ركبا السيارة يرافقهما صمت ثقيل ربض بأسماله الرثة على المكان .. أوجع نتنه قلوبهم جميعا حتى أزاحه الشاب بحديثه:
_ أبوي خبرتك أكثر من مرة ..مريم تحتاج علاج نفسي ما تحتاج علاج سحر ومس وغيره .. .هذا كله دجل و نصب.
_ بنتي ما تروح مستشفى نفسي ..بنتي ما مجنونة.
_ أبوي تراه ما كل إلي يعالج في مستشفى نفسي معناته مجنون .. والمرض النفسي إذا ما تعالج عواقبه وخيمة.
أرسل نظرة بعيدة من خلف زجاج النافذة. ..وكأنه يحدق في شي ما وربما لا شي..شعر بغصة تستوطن روحه ، ود لو تموت الذكرى فلا يبقى منها شي.. فمجرد مقارنة عابرة بين حالة مريم قبل المرض وبعده تلدغه بسم حقير لا يقوى على تحمله. …
كانت الساعة تقترب من التاسعة مساء حين وصلوا إلى البيت … خطت مريم بضع خطوات متثاقلة ، أزاحت مزلاج الباب ؛ لكنها أثناء ذلك نظرت بطرف خفي إلى بقايا أحراش متكدسة بنزق على مسافة غير بعيدة من بيتهم .. شعرت بغثيان بدا المشهد ضبابيا أمامها … أكان بشرا؟!! أم أنه وحش بصقته مدن الرذيلة … تتذكر همهماته المقرفة و تستحضر صرخاتها ومحاولة إفلاتها من قبضته … هزت رأسها وكأنها تغسله من ذكرى خانقة..
أغمضت عينيها ، شعرت برعشة شديدة تهز أوصالها، أطلقت صرخة قوية تردد صداها في قلب أبيها المفطور …ضمها بقوة وهو يتمتم :
– الله يصبرك ويصبرنا يا بنتي لين يزول هالمس وترد لك العافية .
ظلت الحمى تلوك جسدها يومين كاملين وأنفاسها تضعف شيئا فشيئا ..يمسك يديها الهزيلتين بحنان و يقرأ عليها ما يحفظ من قصار السور، بينما اصطفت مجموعة من مهدئات الحمى على المنضدة المهترئة بجانب السرير ..
_ بتخفي يا مريم وبترجع لك الصحة ، و أنا بنفسي بلبسك البنجري إلي أمك وصت قبل لا تموت أنك تلبسينه في عرسك..
غطى جسدها الذي سرقه الهم حتى أنحفه بلحاف رقيق ، و دثر قلبها الذي كبله المرض بعطف الأبوة و حنانها السخي .
بعدها بيوم اختفت مريم … زاد الوجع أطنانا و توسدت قلبه عواصف الحيرة …
أين مريم ؟!! بعثرته التساؤلات ..
إنها لا تعرف الطريق إلا لبيت جيرانهم بجانب الأحراش القريبة الرابضة على مسافة غير بعيدة من بيتهم ..لا يمكن ان تبتعد أكثر من ذلك وإلا ابتلعها التيه … ارتاح قلبه لصوت أذان العصر ..شرع في الوضوء ..حانت منه التفاتة غير متعمدة إلى بئر قديمة في ساحة البيت …كانت نصف مفتوحة و وأمامها حذاء مريم الأخضر الذي أهداها إياه في عيد الفطر الماضي .